هُضم حق يوحنا المعمدان كثيراً ، لما ذكره العهد الجديد كحدث عابر وعامل مساعد على أقل تقدير ، ما لبث أن صار غابر ليس له في عهد النعمة تاثير ، فلم يات ذكره إلا في حدود ضيقة المدى ــ للقاري السطحي ــ إلا أنه وبالغوص في أعماق الألفاظ ، والحوارات والجُمل والاحداث ، فإنا نستطيع أن نخرج بحياة أخرى ليوحنا المعمدان ، غير تلك التي سلط العهد الجديد الضوء عليها ، لخدمة ما يبدو أنه كان ما يربوا إليه كُتَّابه وقتئذ ، ولما يكون ذلك فإننا نفاجئ بأنه ــ يوحنا المعمدان ــ تارة يعلو مقاماً عن المسيح يسوع ، وتارة يساويه ، إلا أنه لا يقل عنه بحال ! مما جعلنا نهتم لأمره هذا ، ونتقصاه ونخرج مما بقي من سيرته المنقوصة سيرة جليه ، منذ ميلاده وحتى مقتله أو وفاته .
ومن المحزن ، والجدير ذكره أيضاً أننا نجد أن ما اعتبرناه إضافات كانت لتعزيز دور المسيح يسوع ، هي هي التي منها خرجنا بجوهر وكنه المعمدان ، إلا أن العامة أخذوا ذلك محض إضافات لحساب المسيح على حساب يوحنا المعمدان !
فمنذ البشارة بيوحنا جنيناً ، تحمله أليصابات زوج زكريا وهو معدود من العظماء أمام الرب (لو 15/1) ، ولا يقرب الخطية ويمتلي في بطن أمه من الروح القدس ، وكثير من العظماء هم مخطئون وهم عظماء ــ دنيوياً ــ رغم ذلك ، إلا أن يوحنا المعمدان فبالإضافة إلى كونه عظيماً من الله فهو خَيِّر ولم يرتكب الخطية فلم يقرب مقدماتها حتى ، إلا أن الأبرز في ذلك كله أنه لم يكن ليرتكب خطية ، فقد امتلى بالروح القدس ، وامتلى أي صار بلا حيز فارغ ليحتوي غير الروح القدس ، فلم يكن للخطية حيز في قلبه وكيانه أو نواياه أو عمله ــ ولا أدري ، هل يمحو ذلك الخطية الموروثة اللصيقة ؟ــ فالروح القدس أقنوم إلهي كامل وليس مجرد عامل مساعد لأقانيم أخرى . ثم وإن افترضنا وجود الخطية اللصيقة بــ (إنسان) ما كان ليرتكب خطية مكتسبة ، وزيد على هذا امتلاءه بالروح القدس فهذا مبرر قوي لجعله كائن مثل من ظهر في وسطهم ، وسنعود لهذا الأمر بالتفصيل لاحقاً .
على هذا الظن ــ الامتلاء بالله ــ فلا يجتمع الله والخطية في مكان ، لاسيما وأنه جسم وروح إنسان . فإذا اعتبرنا أنه ــ يوحنا المعمدان ــ منزه عن أي خطية للأمر السالف ذكره ، نجد أن هذا الأمر غير واضح وليس مطروق بجلاء ليفهمه الناس ، فالأهم عندهم هو أن يكون يسوع هو المتمتع الوحيد والأوحد بتلك الميزة دون غيره ! (وإنا سنرى لاحقاً أن التمتع بهذه الميزة على حال يسوع يعتبر نقصاً في ناسوته) .
إلا أن الحق لا بد أن يُقال ، ويظهر ، ويتم بيانه ، فها هوذا يوحنا ، جاء هو الآخر مُنقىَ من الخطية ، فليس يسوع بذلك هو المتفرد والحائز الوحيد على القول في (عب 15/4) "لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا ، بل مجرب في كل شيء مثلنا ، بلا خطية) فها هوذا يوحنا المعمدان ، كان في حياته مجرب في كل شيء ، مثل كل البشر ، وبلا خطية !
وجدير بالذكر أنه إذا جئنا على القول "مجرب في كل شيء" مضاف إليه الوصف "مثلنا" مُحلىَ بالتنزيه "بلا خطية" ، نجد أن يوحنا المعمدان والمسيح يسوع مشتركان في شيء واحد في هذه الآية الجليلة ، وهذا الشيء المشترك بينهما هو "بلا خطية" بينما تتفق الآية في باقيها ويوحنا المعمدان ، دون المسيح يسوع ! كيف ؟ يظهر أن يوحنا المعمدان هو الأجدر في القول "مجرب في كل شيء" فواحدة ــ فرضاً ــ أنه حمل الخطية الموروثة والتي زالت ، بامتلاءه بالروح القدس ، فتلك تجربة لم يحوزها يسوع ذاته ! والثانية أن يوحنا مثل البشر في ميلاده الطبيعي ، وليس كيسوع في ميلاده من عذراء . وهنا يبرز يوحنا المعمدان في براءته ، وقداسته ، ونزاهته ، وطهره من أي خطية ، رغم اجتماع أسبابها في تكوينه ، وهي الأسباب المؤدية لتوارثها ، ولكن أي شيء هو الذي يقف صامداً أمام روح الله المقدس الممتلي به يوحنا سلفاً ؟! ، وعليه لا يكون يسوع في تلك الحالة "مثلنا" فهو ليس مجرب في كل شيء ، إذ دُعي أنه بلا خطية على الإطلاق ، كما أنه لا يماثلنا في الظهور أي الميلاد . أما يوحنا المعمدان فهو مثل البشر في كل شيء سواء التجربة أو الميلاد ، إلا أن الروح المقدس فيه كان هو الكائن ولا كائن سواه .
هذا الكلام المفاجئ ، ورغم كثرته وزخر الكتاب المقدس منه ، غير أنه مهمل كإهمال يوحنا المعمدان ، إلا من كونه "صوت صارخ في البرية" يُعِد طريق الرب ! فهذا ما دار على الألسنة وما فهمته العقول وما فتئت به تكرز وتقول ...
ولكن ، هذا الكلام الجميل لا يؤهل لوحده ، أن يجعل يوحنا المعمدان ابناً إلهيا بكراً ، يجب أن يقدسه المسيحيون ، كإله ، أو اعتباره ، أقنوم إلهي مع الاقانيم ، إذ لا بد أن يتوفر فيه ما يجب أن يكون من خصايص الإله ، كي يكون في هذا الأمر معتبراً . ولأن ذات السبب ، قد لحق بشخص يوحنا المعمدان في الإهمال ، إلا أن صفة وحيدة لزمته والتزمها المسيحيون ، هي التي ذكرناها سلفاً التزموها دون سوها "صوت صارخ في البرية" (إش 40/3) ، (مت 3/3) ، (مر 3/1) ، (مر 4/3) ، (يو 23/1) الواقع لا أدري هل لأرقام الإصحاحات والأعداد علاقة فيما نتكلم فيه ؟ ربما ، ولكن ليس هذا موضوعنا .
ولما ظهر المعمدان صوتاً في البرية يُعد طريق الرب ويقومه ، فإننا نبرز هنا مزيداً من الأوصاف العُليا ، التي ما كان لمجرد بشر أن يحملها ، وما كان لإله أن يفقدها ، يقول القديس لوقا في إنجيله ، على لسان زكريا أبي يوحنا المعمدان من الجهة البشرية : "وأنت أيها الطفل ستُدعى نبي العلي لأنك تسير أمام الرب لتعد طرقه وتُعلم شعبه الخلاص بغفران خطاياهم" (لو 76/1) ومن هذه الآية العظيمة ، فنحن إن لم نستخلص منها عدة موضوعات كبرى بخصوص عظمة المعمدان ، وألوهيته ، فيجب أن نُقر بأننا نُغمض أعيننا كثيراً عن الحقايق ، التي استوعبنا خلافها بمجرد الوراثة للدين ، وما اكتسبناه من الوالدين ، أو الكهنة القاصدين ، أو المجتهدين ، وما عاد مجال لتبديلها بالتفكير ، أوالتأمل في آيات الكتاب المقدس ــ الذي هو بذلك جدير ــ وإلا تكون مهرطقاً كبيراً ، وينصح لك ناصح "لا تتأمل فقط انقل" ! .
تسرد هذه الآية (لو 76/1) عدة أوصاف عظيمة ، ليوحنا المعمدان ، وعلى مثال يسوع ، إلا أنه يجدر بنا أيضاً أن نقول ، أن القول "لكل مقام مقال" ينطبق على أوصاف المعمدان أكثر ، وما تحلى به يسوع زيادةً على ماكان لديه ، إلا شبيه الاستعراض الإلهي ، في جسم الناسوت ، وليس له محل من الاعراب ، في قضية الفداء خصيصاً ، فما الداعي أن يُحيي الموتى مثلاً ؟ وما الداعي أن يشفي مريض حقاً ؟ نجد أن كل هذا لم يكن البشر في حاجة إليه بقدر ما هم كانوا بحاجة أولى لغفران خطاياهم ، من أجل دخول ملكوت السموات آمنين . نعود للآيات (لو 76/1) ففيها نجد بجلاء أن يوحنا المعمدان بلا خطية ، فحين قال : "تسير أمام الرب لتعد طرقه" فهذه واحدة تثبت نقائه ، فإذا كان تجسد الله ، وصلبه كذبيحة واحدة ، كافية عن كل البشر وفداءً لمحو خطيتهم ، فليس من الصواب البتة استعمال خاطي فيه خطية لمحو خطية ! وإلا فيكون الكل مهدوم فما يُبنى على باطل فهو باطل (إر 5/2) وعلى هذا الأساس فإن (مُعِد طريق الرب) لا بد من صحته ونقاوته لهذه المهمة ، لاسيما نقاوته من الخطية الأولى الموروثة ، لأن المهمة في الأصل مُجراة من أجل محوها ، وكما أن "كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب" (مت 25/12) ، (لو 17/11) فإذا سلمنا واستسلمنا بأن يوحنا له خطية ولو صغيرة ، ولو موروثة لم تمحى ، قبل البدء في أي خطة إلهية ، أو النية في عمل فدائي ، فنحن نأسف أن نقول باطل هو الصليب ! إذ أن الإعداد في الأصل كان معوجاً منذ البدء ، ولم يراعَ فيه الانسجام ، أما في حال كونه بلا خطية ، فذلك يفرض علينا التسليم بأنه ابناً بكراً ، كما هو الواقع المُعاين ، وأقنوماً كاملاً ، كما هو الاستنتاج المُبين ، فهو مُرشد الرب ، أي دليله ، ممهدٌ له الطريق ومُعدهُ ، مُعلم ، مُخَلِصُ ، غافر الخطايا ، رحيم .
وعن قول أبيه ، من الجهة البشرية ، زكريا "وأنت أيها الطفل ستدعى ابن العلي" فهو يعد دليلاً آخر على أقنومية يوحنا المعمدان وبنوته ، فبروجوعنا لتلك الآية الوحيدة ، التي اشتهرت عن يوحنا المعمدان على الألسنة أنه "صوت صارخ في البرية" نعلم أنه ليس مجرد شخص عادي ، فهو لما سئُل "من أنت ؟" فاعترف "لست المسيح" ويُظَنُ أن قوله هذا راجع إلى عدة أسباب هامة هي : الأول أنه بلا خطية ، مثل المسيح بلا خطية ، لدرجة أن اعتبره المعاصرون له أنه هو المسيح ، ولكنه وفي الإجابات التالية على تكرار ذات السؤال "من أنت ؟" اتضح أنه أعظم من مجرد كونه المسيح ، وسنرى ذلك ونعاينه . السبب الثان أنه ماسح المسيح حسب القول في (إش 61/1) "لأن الرب مسحني لأبشر المساكين" وقد قرأ هذه الآية المسيح يسوع ، على الملأ ، وذكرها القديس لوقا في بشارته (لو 18/4) ونحن نقول أنه ماسح المسيح لأن وصف المسيح يعني الشخص الممسوح ، أما وصف المعمدان فيعني الصابغ ، ولما كان يوحنا هو "صوت مناد في البرية" من أجل تقويم طريق الرب ، وهو ليس المسيح ، وأن المسيح هو نفسه يقول "لأن الرب مسحني ..." فيوحنا بذلك يكون هو ماسح المسيح ، فهو مصدر المسحة التي تلقاها المسيح ، ولما نرى أن أبيه زكريا من الجهة البشرية يقول عنه أنه نبي العلي يُدعى (لو 76/1) وهو نفسه ــ أي المعمدان ــ أجاب عن نفسه في سياق إجاباته عن ذات السؤال المتكرر "من أنت ؟" .. "النبي أنت ؟" أجاب هو "لا" !! ما معنى هذا ؟ أهو تناقض ؟ بين قول زكريا في التسبحة وجواب يوحنا عن نفسه ، قد يبدوا في الأمر تعارض ! غير أنه ليس بتعارض ولا بتناقض على الإطلاق ، فبقدر ما أن تسبحة زكريا هي وحي بنبوة ، ولا بد أن تأخذ النبوة الشكل الغامض ، لا التصريح الذي قد يَشُذ فتُرفض ، فلا يدركها إلا العارف ، بينما جواب يوحنا فهو تحقيق لتلك النبوة في صورتها وشكلها الحقيقي ، فهو ليس النبي ، كما قال هو عن نفسه ، وهو أيضاً نبي العلي ، كما قال عنه أبيه زكريا ، من الجهة البشرية ، فكلمة "نبي العلي" تضاهي "صوت مناد في البرية أعدوا طريق الرب" فكأنها تعبير عن شخص يتحدث عن ذاته ! ويبدو ذلك موَضحاً أكثر في الآية "لأن الرب مسحني" (لو 18/4) فيوحنا هو صاحب المسحة ، على يسوع ، ليصير يسوع مسيحاً ، وذلك في المعمودية ، ثم استقباله للروح القدس . فعلى الرغم من أن سؤال الكهنة له كان "من أنت ؟" لم يرد هو الرد الطبيعي المنطقي على مثل هذا السؤال ، كأن يذكر صفة ككنية أو اسم علم وهوية تعريفية ، ولكنه ذكر فعل لفاعل هو "صوت مناد" وأمر "قوموا" أو "أعدوا" ومع القول "لأن الرب مسحني" نجد أن قوله "أعدوا طريق الرب" يقولها كمن يقولها على ذاته ، وأن القايم بتعميد يسوع هو يوحنا ـ واهب مسحة الروح القدس ـ بالمعمودية .
وإضافة لكل ما سبق ، يقول يسوع في (يو 18/1) "إن الله ما رآه أحد قط ، الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو أخبر عنه" ثم يلج الكاتب مباشرة في شهادة المعمدان فيقول أنه قال وأقر بأنه ليس المسيح ولا إيليا ولا النبي إنما هو صوت في البرية ، أعدو طريق الرب . وبهذا يكون المعمدان هو المُخبر عن الآب بل هو الخبر الذي تحدث عنه يسوع ، فنحن إذا أخفينا شطر الآية الثان واكتفينا بالشطر الأول منها "صوت مناد في البرية * أعدو طريق الرب" فإننا سنكون أمام سؤال هو : وما شان ذلك النداء في البرية ؟ وعندما نُكمل ونقرأ بقية شطر الآية فإننا سنكون بذلك حصلنا على إفادة تامة ، والذي أفادنا هو الشطر الثان في الآية وهو الذي أخبرنا بماهية الصوت المنادِ لذلك فهو الخبر الذي قصده يسوع في (يو 18/1) . على هذه الأسس سالفة الذكر هُيء المسيح يسوع ، من خلال مسحهِ بيوحنا المعمدان المُعلم ، بأن يكون مناط الخلاص ، بعد أن استشربه من مصدره المعمدان ، وذلك حسب (لو 77/1) .
إن عظمة يوحنا المعمدان لا يجب أن تقف بالنظر السطحي عند الآية "صوت صارخ في البرية" يُعد طريق الرب ، ومن هذه السطحية ، يكون العجل والملل ، فما وراء هذه الكلمات البسيطة تكمن العظمة ، التي تاهت من أمام كل مومن ، وتبرز الحقيقة ، وتتضح المسالك ، ويجلو الفكر لفكر أرقى ، لا تحده حدود ، وإلا نكون رمينا الإله بأنه محدودٌ وحاشاه .