الثلاثاء، أكتوبر 14، 2008

المعمودية 3

في مقالين سابقين حول هذه القضية افترضنا في كل منهما فرضية سرنا على أساسها المأخوذ من العهد الجديد بالمباشرة ، فكانت أول فرضية لنا في ذلك الإطار أن قد قلنا بأنيوحنا المعمدان قد لقي تعميدا قبل أن يوجد في دنيانا تلك ، حيث قيل عنه " لانه يكون عظيما امام الرب و خمرا و مسكرا لا يشرب و من بطن امه يمتلئ من الروح القدس "لوقا ( 1 : 15 ) وبذلك فهو غير محتاج إلى اعتماد من أحد ، إذ قد نال ما يثعتمد الإنسان لأجله أي نيل الروح القدس . وفي فرضيتنا التالية بالمقال الثاني بذلك المضمار قلنا لعله ملاك من الله أيضا على أساس مباشر من العهد الجديد إذ قيل " فان هذا هو الذي كتب عنه ها انا ارسل امام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك " متى ( 11 : 10 ) فكان هذا التهيئ من هذا الملاك الرباني أن يقوم بمهمات عديدة وبهذه الصفة الملائكية يكون يوحنا المعمدان غير محتاج لمن يعمده إذ انه مطهر بطبيعته ولا يحتاج للتطهُر بعد . ذلك ما قد أثرناه وتكلمنا فيه وخلصنا منه في كل مقال أنه :ـ بما أن يسوع المسيح محتاج لمن يهيئه باعتماد لنيل روح قدسية ليكون إلهاً مكتملا ناسوتا مندمجا بلا انفصال بلاهوت فهو بذلك بَعُد عن الصفة الألوهية في ذاته أو صفاته أو خلقه أو تكوينه أو تعيينه ، والسبب ليس قولا منا بالطبع ولكنه على الأسس التي استقيناها من الكتاب المقدس نقلا من نص معترف به في العقيدة المسيحية ككل .
أما في هذا المقال فقد رأيت استكمال وضع الفرضيات الممكنة حول اعتماد يوحنا المعمدان لأنه على اساس هذا الاعتماد ( الفعلي أو الروحاني ) يتبين لنا بالروابط العلاقية أساس الصفة الحقة للسيد المسيح ، هل هي ألوهية مطلقة ، أم ألوهية عارضة ، أم ما هي إلا نبوة تبشيرية ، أم تشريعية ، أم هو مجرد إنسان عادي صالح اعتمد على أيد المعمدان ككل من اعتمد من قبل من بني إسرائيل ؟ وأيضا من تلك الروابط العلاقية نكشف ما لقدسية الاعتماد من شرع ما زال مأخوذا به ، ومنه ومن شخصية المعمدان أيضا نتوصل لطبيعة يسوع المسيح
الحقيقية .
في هذا المقال سنفترض افتراضا جديدا مأخوذا كذلك أيضا من نصوص الكتاب المقدس ، فقد أخذنا فرضية أن يوحنا المعمدان
ماهو إلا إنسان عادي لم تخلط إنسانيته الخَلقية في وجوده شيئا ما من غرابة تفسد البشرية أو فكرة الإنسانية فيه ، فما هو إلا قد نال شرفا بتقواه . عند هذا التصور نجد أن وظيفته وهي تعميد الناس أي تطهيرهم هي وظيفة عادية قد ينالها أي بشر يمتلك من مقومات التقوى ما يجعله في أعين الناس جديرا لفعل مثل ذلك الفعل ـ لجوء الناس إليه ثقةً فيه ـ فقد اكتسب هو ذلك لذلك ، فهو كإمام واعظ أو رجل صالح فيه حكمة مؤهلة لذلك .
مع تلك المقومات غير الغريبة على بشر من عامة الناس نرى أن الكتاب المقدس يذكر ذلك بلمحة سريعة لطيفة حيث يقول في لوقا ( 3 : 21 ) " و لما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع ايضا
" فمن هذا النص نستقي نقلا أن الذي عَمَدَ هو يوحنا المعمدان ابن النبي زكريا ، ومن ذلك نرى أن ما يوحنا إلا بشرا عاديا قد أنعم الله عليه بنعم ، فهو ليس بمَلَكٍ كما أسلفنا في مقال سابق كفرضية محتملة مؤسسة على نص ، فهو إنسان لا أكثر ولا أقل ، كعامة الناس بشرا طبيعيا ودليل ذلك هذا النص المقتبس لدينا في لوقا ( 3 : 21 ) قوله " و لما اعتمد جميع الشعب .. " فاعتماد جميع الشعب هنا أو بالحري جمع الحضور يعطي انطباعا واجبيا نحو الواجب العملي العام وفي انسيابية الأمر واعتياديته . إذا فلم يكن يوحنا المعمدان بذلك العمل العام مخصوصا ليسوع وتعميده خاصة ، ولكنه كان إنسانا بشرا عاديا ، أنبأه الله لخير الجميع .
ولما كان يوحنا المعمدان غير مختص بيسوع في تلك الحال ، يكون من ذلك يسوع المسيح في المقابل بشرا عاديا هو الآخر ولا ينتمي لمصاف الآلهة والسبب هو أنه تعرض لما يتعرض له البشر بواسطة بشر ، (( ولكننا قد علمنا مسبقا أن الاعتقاد المسيحي قائم على أن الله سبحانه قد تجسد بشرا طاهر غير مخطئ كي يتحمل عن البشر الخطائيين إثمهم ، ويكون ذبيحة فداء لهم ، نعم )) ، ولكن في تلك الحال فالمعمودية
التي ليسوع تفصل في ذلك ، أو بالأحرى نقول لا تحدد كيف يكون يسوع إلها بل وتبين واقع الأمر .
فواقعيا عندما نردد قولة القديس لوقا في ( 3 : 21 ) " و لما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع ايضا " فما الجازم هنا أن يسوعا بشرا غير مخطئ نزل ليفدي البشرية بدمه الطاهر ، وما الجازم كذلك أن كل البشر المعتمدين من قبل وحينئذ من يوحنا خطائيين بالكلية
؟ !
قد يرُد أحد المسيحيين ويقول : أن البشر بسلالتهم الممتدة لآدم قد نالوا من الخطيئة الأولى الأزلية للبشر ، أما يسوع فقد اجتنب هذه الخطيئة الممتدة للبشر بميلاد معجز ! ونقول هذا جواب جيد ، ولكنه سطحي عندما ننظر بعمق لنسب يسوع المسيح في إنجيل لوقا أيضا ـ الفقرة التالية للمعمودية في ذات الأصحاح ـ نرى أن تسلسل النسب يمتد وصولا إلى آدم ثم تنسب البنوة العمومية إلى الله أخيرا ، وذلك يدخلنا في دهليز آخر وهو أنه مادام آدم انتسب أخيرا ببنوة إلى الله ـ حسب سلسلة النسب في لوقا ـ فلا فرق إذا بين أفراد تكوين النسب الشريف الطاهر . فذلك معناه أنه واقعيا أن آدم لم يخطئ ، وإنما هي مشيئة الله غير المعيبة في تصرف آدم ، ( فالتالي في التواجد بعد الله هو الأولى في الاحتفاظ بالعهد ممن سواه ) ويسوع من نسل آدم كما ذكر لوقا ، فهو لم ينل خطيئة لأن آدم لم ينلها ولم يرتكبها ، وبالتالي أيضا لا تكون خطيئة على البشرية أصلا تستدع الفداء
.
وفي سلسلة نسب يسوعية أخرى ذكرها القديس متى في إنجيله انتهت فيها سلالة يسوع المسيح إلى النبي داود ولم يدعوا القديس متى بالإشارة إلى بنوة لله . فإذا فرضنا أن متى يقصد ذلك ـ يعرفه ولم يكتب لأنه معروف ـ يكون كلامنا هو ذات الكلام الذي قيل في النسب للقديس لوقا عن المسيح ، أما إن كان هذا النسب هو الأولى ، وفي الواقع لم يكن هناك وصولا إلى الذات الإلهية ، يكون كلامنا أن يسوع المسيح بشري السلالة خالصا ، حامل للخطيئة إن وجدت ، مساوي للبشر ومجموع الحضور للاعتماد من يوحنا المعمدان ، ولهذا قيل " ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضا " لوقا ( 3 : 21 ) .

بذلك ، لقد أوضحت بشرية يوحنا المعمدان ، وأنه ليس إلا بشرا نبيا في تساوي يسوع المسيح معه في الطبيعة البشرية المخطئة المشرئبة للتطهر وانعدام احتماله لطبيعة أخرى لا ترتكب الخطأ .ثم تساوي يسوع مع جموع الشعب في إنسانيتهم ( ليس من وجهة النظر الفدائية بالتدخل الإلهي ) ، ولكن بواقعية الأمر وطبيعة الوجود . فإن كان الشعب قد اعتمد لخطيئة احدثها أو لنيل بركات قدسية طالما ارتقبها ، فما الداعي أن يقال على يسوع المسيح أكثر مما وجه للشعب وهو كلام ليس فيه ما يعيب .
أما وإن قيل أن اعتماد يسوع كان لاستلاله من جانبه الناسوتي الملتصق به من أمه مريم العذراء . وجد القائل لهذا الكلام ردا عليه في المقال السابق الذي فيه فرضُنا بملائكية يوحنا المعمدان ـ حسب العهد الجديد ـ .