الأحد، مارس 30، 2008

المعمودية

من الاعتقاد المسيحي العام عرفنا جميعا أن ناسوت المسيح لا يمنعه أبدا من لاهوته فهو مهما فعل من فعلات إنسانية وظن البعض أنه إنسان ليس إلا فهو أيضا إلها غير أن التقبل البشري لمسألة اللاهوت مع الناسوت بإناء واحد يشرب كله ليست بالسهل المستساغ ولا يطيقها العقل البشري خاصة في عصورنا تلك إذ كان بالإمكان التقبل أكثر في العصور الأولى لهذا الأمر حيث كانت الوثنية تزعم هي الأخرى حلول اللاهوت في جسم دنيوي أخر .
إلا أن أمر المسيح يختلف عن هذا الزعم فبميلاده المعجز يعطي تقديما لما سيكون عما سيراه المسيحيون .
وبالنظر بقليل من التأمل إلى جل مسائل العقيدة المسيحية يُواجهُ هذا الاستلام للعقيدة بإحاطات متتابعة من الحصانة الفلسفية الخاصة فكلما أريد اختراقها بفكر عقلي ما تنجو من تلك الاختراقات فإذا لجأ أضداد المسيحية إلى القول مثلا بتدني الإله لبشر قيل أن ذلك البشر هو الإله بلا انفصال فلا يكون هناك تدني وأن ذات الإله هي ذاتها ذاك الإنسان دون ميز بهذا عن ذاك ولا غنى عنهما مجتمعان .
فهنا في هذه الهلامية الإلهية العجيبة في التصور رغم التجسيد المادي لايمكن بقليل من التأمل نقض هذا التوحد . إلا أنه بالتعمق في علاقات وردت في الكتاب المقدس نجد ان انتفاء الصلة بين الإله وهذا البشر ليس روحيا ولكن جوهريا بحيث يكونا واحدا ، هذا الانتفاء قد حدث ووضعنا على الحد الرفيع بين الأمرين أمر الإله وشكل البشر . فعندما نتكلم عن معمودية المسيح نجد ان المسألة طبيعية بالنسبة لناسوته إلا أن جميع الأمور الحادثة في هذه المسألة توضح انفصال ذلك الناسوت عن هذا اللاهوت .
فعندما ننظر إلى الفاعل وهو يوحنا المعمدان الذي لم يُتوصل إلى أصل اعتماده بشكل جازم إلا أن البعض يقول أنه من بطن امه امتلأ بالروح القدس اعتمادا على ( لوقا 1 : 15 ) والروح القدس يتنزل على الإنسان إثر التعميد ويوحنا هنا وفي هذه الحال ليس محتاجا لمن يعمده لأنه مملوء بالروح القدس من بطن أمه بشكل مسبق .
هذا عن الفاعل الذي امتلأ بالروح القدس من بطن امه التي حوت زرعا بشريا لرجل بالطريقة الجنسية الفطرية المعروفة ولا مانع ابدا ولا اعتراض في ذلك ، إلا أن وجه الغرابة هو أن يقوم يوحنا الحامل لكل هذه الميزات والتي لم تنقص من بشريته شيئا يقوم بتعميد شخص الناسوت المرتبط ارتباطا وثيقا باللاهوت وعن ذلك الناسوت وميلاده المعجز المذكور سلفا لم تمسه الروح القدس من بطن أمه وهو أولى ؛ فلا وجود لزرع بشري لرجل يعيق استقبال الروح القدسية في بطن الم الحاملة للإله ، ولكنه رغم ذلك ـ في الاعتقاد المسيحي ـ كان بحاجة إلى اعتماد لتتنزل عليه الروح القدس وقد حدث وأن نزلت كحمامة وأتت عليه .
إن معمودية يوحنا ـ السمائية ـ ، ـ إن كانت كذلك فعلا ـ لم تنقص من بشريته على الإطلاق ولم تغالي في وصفه ليكون عند الناس أكثر من بشر ، إلا أن معمودية يسوع البشرية أثبتت إنسانيته وأكدت عدم اتصاله الجوهري حينئذ بالإله .

وفي ذلك كان الإعلان الإلهي بعد أن اعتمد يسوع أولا وخرج من الماء ثانيا ونزل الروح القدس عليه أخيرا ، ثم نودي وقتها ....
" هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت . "

الثلاثاء، مارس 18، 2008

يسوع الناصري رجل ( الزمان )

إنَ مَن فَهِمَ أن المسيحيين قد ألّهوا السيد المسيح فقد ضل ضلاله البين ، فإن الأمر في الواقع غير ذلك على الإطلاق فهم يعتقدون صدقا أن الله هو ذاته السيد المسيح ، إذ لم يتحولوا عن عبادة الله إذ كانوا يهوداً وعبدوا المسيح عندما صاروا مسيحيين ، بالطبع لا ، ولكنهم اعتقدوا أن الله ذاته الذي كانوا يعبدونه إذ كانوا يهودا قد نزل وتمثل في جسد المسيح وشكله وكل فعاله وتصرفاته حيث صار ثلاثة في واحد . لهذا نجد في الأناجيل الأربعة المعروفة في المسيحية تباينا بين وصف السيد المسيح هنا وهنالك وتعارض بين أفعاله وأقواله بين كلٍ من تلك الأناجيل وفي هذا يمكن القول بأن لا تعارض ولكنه التكامل بين الرؤية الأقنومية ، إذ نجد على سبيل الذكر أن إنجيل متى أخذ تصورا واحدا لجانب من جوانب حياة السيد المسيح واهتم إنجيل مرقس بجانب آخر وكذلك إنجيل لوقا لزم جانب وتكلم فيه وإنجيل يوحنا أيضا فنجد أن البعض ركز على الوصف الإلهي له والبعض الآخر ركز على الوصف الرسولي وبعضٌ آخر ركز على الجانب البشري . ذلك حتى يسطع لنا من هذا في النهاية صورة متكاملة لذلك الثالوث ( الواحد ) ( آب و إبن و روح قدس ) .
لكن لست هنا أتكلم هذا الكلام كي أوضح نيابة عن المسيحيين عقيدتهم بل لأنني وجدت ما أثار هذا الموضوع وذلك الذي وجدته متواجد بجلاء في كتاب العهد الجديد الذي يُطلق عليه الإنجيل بسفر أعمال الرسل الأصحاح الثاني العدد 22 حيث يقول القديس لوقا الذي هو نفسه كاتب إنجيل لوقا يقول " أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال : يسوع الناصري رجل ... " من الوهلة الأولى سوف يقول كل قارئ مسيحي أن ليس في ذلك أدنى شك ولا تعارض بدليل ما ذكرته أنا في صدر مقالي عن تكامل الأقانيم ولكن المسألة أعمق من ذلك فإن السياق الذي ذُكرت فيه هذه المقولة " يسوع الناصري رجل " هو سياق خطبة ألقاها القديس بطرس الرسول أمام جمع غفير من الناس متعددي الأعراق والأجناس وكذلك أمام التلاميذ وقد أخذها عنه القديس لوقا وكتبها في سفره أعمال الرسل وصارت على هيئة رسالة مبعوثة لشخص يُدعى ( ثاوفيلس ) .
وبالنظر إلى ثلاثة عناصر في غاية الأهمية بشئ من التحليل المنعكس على تلك المقولة " يسوع الناصري رجل " نجد ان تلك العناصر تدحض بشدة فكرة الأقانيم رغم التكامل الذي ذكرته في بداية المقال . تلك العناصر هي ( الزمان ، المكان ، الحدث ) وعن الزمان فإن تلك الخطبة التي ألقاها القديس بطرس الرسول كانت في اليوم الخمسين من رفع السيد المسيح أو ( صعوده ) عن الأرض وبذلك يكون التصريح بأن " يسوع الناصري رجل " في هذا الوقت بالذات وهو أقرب وقت من حادث الصلب وقد كان يسوع قبله قد حث تلاميذه على ان يصدعوا بدعوته من بعده فكان الفعل الأول لهذا الصدع بالدعوة بأن قالوا " يسوع الناصري رجل " فيكون هذا التصريح إذا إقرارا وتأكيدا على بشريته دون الألوهية أو حتى انتزاع فكرة ألوهية ألتصقت به من أناس جهلة فجاء العارفين من التلاميذ لإيضاح الأمر الآن . وإن لم يكن ذلك فما كان إلا أن يُفترض أن يوصف من مريديه وتابعيه بعد صعوده بأنه إله إذ لم يبق الجسد بعد لإثباتِ بشرية على حساب ألوهية ، لكن رغم ذلك وصف بأنه رجل وهو كذلك .ومن جهة أخرى فإن الصفة الأساس تطغى على الصفة الاعتراضية وتطفوا فوقها فإن فرضنا جدلا معا ان المسيح هو الله وكان ما كان بتمثله بشرا فلا يصح أن يوصف بادئ ذي بدء إلا بالوصف ( إله ) لأنه كذلك في أصل الاعتقاد أما حين وصف بأنه رجل وهو لم يعد موجود بعد فهو تخليدا لذكرى بشريته التي هي الأساس لا سيما أن ذلك الوصف جيئ بوقت فيه كان الإعلان العلني الأول الذي سيكون المنهاج فيما بعد . إن الله لم يكن بشرا من قبل في اعتقاد المسيحيين إلا أن تمثله كذلك في المسيح ـ كما يعتقدون ـ هو مجرد حدث اعتراضي لسبب معين وبزوال هذا السبب يجب أن يوصف الله حينئذ بصفته الأساسية وليس بالوصف العارض فإذا فرضنا أن الله هو الفاعل وتمثله بشرا هو الفعل الصادر عنه فإن ذلك يوحي بأن المسيحيين عبدوا الفعل وأهملوا الفاعل الأصل ، وهذه مجرد افتراضات آلت بنا لحقيقة العقيدة المسيحية .
لذلك فإن هذا الوصف " يسوع الناصري رجل " لم يكن له علاقة من قريب او من بعيد بوصف ذات الله وإنما هو وصف مخلوق لله الذي هو يسوع المسيح الذي وصف علنا بأنه رجل . هذا في عنصر الزمان أما عنصري المكان والحدث فهذا ما سأعقب عليه في حلقات قادمة بإذن الله تعالى ضمن مقالات .