لقد كان الحدث الذي قيلت من خلاله تلك المقولة وعلى إثره كانت بهذا الوضوح الذي لا يشوبه لبس كان حدثا يمكن تصنيفه بأنه تمحيص لقلوب قوم مؤمنين وفرض الأمر الواقع ذلك الواقع الذي فُرض من خلال موضوع جيئ ليقره ويفسره من طرحه رغم عدم الحاجة فيه ليُفسر ولكن وكما سبق وأن قلنا أنه من باب ذَكّر أو ثَبّت أو أَحكم عقيدة كادت ان تفلت .
الحدث الذي ذكر في كتاب العهد الجديد هو حدث يمكن تفنيده وإثبات عدم صحته من جهاتٍ عديدة ويمكن الاطلاع على ذلك في الأصحاح الثاني من سفر أعمال الرسل العدد 1 حيث يحكي معجزة حلول الروح القدس في يوم الخمسين على شكل ألسنة من نار ، ولكن إذا فرضنا أن ماشابه ذلك حدث فعلا بشكل يقبله العقل فبالرجوع إلى مقولة القديس بطرس الرسول بأن قال " أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال : يسوع الناصري رجل " وكان بطرس حينئذ هو معقبا بشكل لا يقبل أي لبس في الاستقبال بأن ليس الفاعل لهذا الذي رأوه من شئ معجز الآن هو ليس بفعل يسوع الناصري لأنه رجل كما أنتم رجال فهو ليس بقادر لأن يفعل المعجزات ولكنها قدرة الله وإرادته .
وبهذا القول والتمييز لصفة يسوع الناصري بأنه رجل نجد أنه لا مجال لإمكان وصفه باي شكل أخر ، ولو كان إله كما يُدّعى لكان أدعى وألح في أن تذكر صفته الحقة في هذا الزمان والمكان القياسيين إضافة إلى ذلك الحدث المعجز .
ومن الناحية الأقنومية التي تقول بآب وابن وروح قدس فلقد دحضها بطرس الرسول في خطبته هذه وصَدَّقَ على كلامه باق التلاميذ ووثقه القديس لوقا وبدوره نشرها كما أسلفنا ، فبينما أطلق القديس بطرس الرسول العظة الأولى " ويكون كل من يدعو باسم الرب يخلص " ( أعمال الرسل 2 : 21 ) وفيها ميز الإله بوجوب التوجه إليه تضرعا من أجل الخلاص استطرد معقبا وماثل بين سائر الرجال ويسوع الناصري بانه رجل مثلهم وقال " أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال : يسوع الناصري رجل " وكأن لسان حاله يقرأ هذه الآية القرآنية الشهيرة التي اختتمت بها سورة الكهف {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً }الكهف110
قلنا في المقال السابق واتفقنا أن لا تعارض على الإطلاق بين الأناجيل في المسيحية عند صفة يسوع المسيح إذ لما يصفه أحدهم بأنه يتعامل تعاملات البشر هناك فلا يعترض ذلك مع وصف آخر بأنه يفعل أفاعيل الآلهة هنا فقد قلنا أن الأناجيل تكمل بعضها البعض من وجهة النظر الأقنومية .
وقلت أيضا أن ذلك الكلام لا ينم بالضرورة عن إيمان إلا أنه في واقع الأمر هو فهم لطريقة اعتقادٍ ما وقد يقول البعض من المسيحين أنني ما دمت قد وصلتُ إلى هذه الغاية بأن فهمت تلك العقيدة وأن لا تعارض في كتبها فلما لا أكون معتنقا لها معتقدا بها ؟ وأقول هنا أن كلامي في هذه الأمور أنها أعمال بحثية علمية وليست بحثا عن الحقيقة كما يظن البعض .
ثم دخلت في صلب الموضوع الذي كان حول مقولة قالها العديد من التلاميذ بعد رفع السيد المسيح وحادثة الصلب والتي وثقها نصا القديس لوقا في سفره أعمال الرسل العدد 22 والتي تقول " يسوع الناصري رجل " وقد قلنا في مقالنا السابق أنه بالنظر إلى ثلاثة عناصر هي ( الزمان ، المكان ، الحدث ) نستنتج دحضا واضحا من عمق الفكر الإنجيلي لصُلب التركيبة الأقنومية وقد أخذنا عنصر الزمان بشئ من التفصيل المختزل واتفقنا أن ينفرد كل عنصر من العناصر التالية بمقال تجنبا للإطالة . والآن نحن أمام عنصر المكان لكشف وجه الخلاف الذي تفرزه تلك المقولة امام الفكر المسيحي كله .
قيلت المقولة التي تقول " يسوع الناصري رجل " في زمانٍ ليس ببعيد من حادثة الصلب الشهيرة ورفع يسوع المسيح إذ قيلت بعد خمسين يوما من ذلك وقد كان مكان التصريح بها مدينة أورشليم ، والآن وفي ذلك الزمان ـ آنذاك ـ قيل علنا " يسوع الناصري رجل " كما عُرف في نفس المكان ولنفس الشخوص تقريبا والجموع وأنه بهذه الصفة وليس بصفات غيرها وبهذا ارتفع القديس بطرس الرسول مخاطبا الناس وفي بداية خطبته الرائعة تلك نادى اليهود وقال " أيها الرجال اليهود والساكنون في أورشليم أجمعون ... " ثم دعى إلى العظة الأولى بعد استطراد وقال " ويكون كل من يدعو باسم الرب يخلص " ( أعمال الرسل 2 : 21 ) ثم نبه وقال " أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال " ثم صرح بـأن " يسوع الناصري رجل " وما الفرق بين أولئك الرجال والذين من بعدهم ذكرا وهذا الرجل ؟ لقد كان هذا المكان يجمع أولئك الرجال مع يسوع الذي عرف بأنه رجل ولم يعرف بسوى ذلك في هذا المكان صُرح بطبيعة يسوع بعد انعدام وجوده أرضا (( في ذات المكان )) إذا فذلك ماهو إلا تأكيدا على تلك الطبيعة البشرية ليسوع . وكما ان هذا المكان حوى كما قلنا سابقا العديد من الأجناس والأعراق كما حوى في حدوده التلاميذ وأتباعهم إذ أن هذا المكان بما حواه من أناس شتى سمعوا تلك الخطبة وتلك المقولة فيها ولو كان المسيح شيئا غير رجل حقا كشكل عقدي لما ترك الواعين والمدركين من التلاميذ هذه الفرصة المكانية الفذة إذ اجتمع فيها بوقت قياسي واحد الكثير من الناس الذين وبكل تأكيد سيكونوا اوعية تنضح بما تسمع كما نضح بدوره الفعال القديس لوقا بأن أرسل ذلك الكلام الذي أنشأه إلى الشخص الذي يُدعى ( ثاوفليس ) .
ونعود إلى الشكل الإقنومي وأقول أن التزام القديس بطرس الرسول بالتحدث عن صفة الناسوت هنا ليس لديها أي مبرر مقنع فالمعروف أن السيد المسيح كان في وجوده معروفا بأنه رجل جليلي أو ناصري إذاً وبعد مضي السيد المسيح هل كان فرضا على بطرس أو سواه أن يُعرف مُعرفا أصلا إلا إذا كان هذا المعرف آنذاك قد بدأ يشوب تعريفه شئ من إرهاصات الإنحراف العقدي أو الفكري وذلك قد يكون راجعا إلى ازدياد حدة المعجزات على مقياس التقبل العقلي للبشر .
ما كان على بطرس الرسول في هذه الحالة الزمانية او المكانية على حد سواء إن كان المسيح حقا إله ، ماكان عليه إلا أن يقول بصورة تغلب وضوح النور أنه ( إله ) ولكنه وللسابق ذكره صرح بما كان هو يعتقده وما كان شائعا آنذاك . فيسوع الناصري رجل في اعتقادي الذي يؤكده صوت الإنجيل مُدعما بأقوال التلاميذ الأخيار في ذلك .
قلنا في المقال الأول بصحة فرضية أن معمودية يوحنا أنها من السماء كانت رغم عدم وجود نص جازم لذلك إلا انه بالرجوع إلى ( لوقا 1 : 15 ) يكون ذلك كافيا لمعرفة أصل اعتماده حسب الاعتقاد المسيحي المستقى من العهد الجديد .
وقلنا كذلك أيضا أن تلك المعمودية الخاصة لم تنتفي فيها بشرية يوحنا فلم يقال بعدها أنه سوى بشر كإله أو حتى أقل بكثير كملاك مثلا ، إلا أن معمودية يسوع بيد يوحنا شككت فيما يثار حوله من دعوى الألوهية وألصقت به صفة الناسوت ليس إلا .
والآن وفي هذا المقال سوف نحيد قليلا عن فكرة المقال الأول ـ رغم صحة فرضيتها ـ حيث سنؤول إلى عدم أنسنة يوحنا المعمدان حيث نتصور وكأن المراد الإلهي هو أن يقوم شخص مقدس غير مدنس بتعميد ناسوت اللاهوت لتحل على ذلك الناسوت صفة القداسة باعتماده ، ليكون بالإمكان ذلك ؛ حيث لا روح قدس بلا اعتماد .
فإذا فرضنا أن يوحنا المعمدان هو ملاك من الله اعتمادا على ( مرقس 1 : 2 ) وأيضا استنتاجا من ( يوحنا 1 : 19 ـ 22 ) فلنفترض جدلا أن يوحنا ملاكا أرسل بالفعل لتعميد يسوع وذلك بما أنه ملاك مطهر مسبقا والطهارة تكوينه ، فإن يسوع بذلك قبل التعميد ناسوتا عاديا غير مرتبط جوهريا بلاهوت وذلك على أساس ( متى 3 : 16 ) وغيرها . فقد كان هذا دور الملاك ( يوحنا المعمدان ) ؛ أن يعمد إنسانا ليضفي عليه بأمر من الله صفة ما ، ولكن ماهذه الصفة التي تجعل الناسوت متحدا اتحادا اندماجيا بذات اللاهوت ؟ .. إن الاعتماد أضفى على شخص المسيح صفة روحية جديدة فبعدما كان ناسوتا عاديا أُهلَ بالاعتماد من الشخص المطهر ـ المناسب ـ ليستقبل الإلهامات الإلهية فيمكن في هذه الحال أن ننسب إليه أنه اكتسب صفة النبوة أو الرسولية لاستقبال الوحي الرباني فصار مرتبطا ارتباطا روحيا بربه الله ولكنه ارتباط غير جوهري . فالمعمودية أعطت قدسية ولم تعط ألوهية ؛لم تعطِ ألوهية لأن التطهر يحول الإنسان إلى طاهر أو صديق أو قديس أو نبي أو رسول وكل هذه المسميات في إطار إنساني محض بشري خالص . فلم يعط الاعتماد ألوهية للناسوت لأن التطهر كان سابقا عليه ، ولي بالمبالغة في الطهر يصبح المرء شيئا أخر مختلفا في جوهره ، فالروح القدس لم يأتِ إلا بعد مرحلة المعمودية .
عند اعتبار يوحنا المعمدان ملاكا رشح ككائن مطهر لمعمودية يسوع لإحلال عليه الروح القدس يكون بذلك يوحنا ليس فقط ممهدا لطريق يسوع أمامه ، بل يكون كواضع سر اللاهوت في شخص الناسوت أيضا ! .
إن ذلك الكلام لا يستقيم بل لايليق . ذلك مع القول بأن هل يضع الملاك سر الألوهية ويمسكها بيده أم يكون هو الناقل لسر النبوة ؟ فأي التصورين أفضل ليستقبله العقل في ذلك .